سورة الفاتحة - تفسير تفسير البيضاوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفاتحة)


        


{مالك يَوْمِ الدين} قراءة عاصم والكسائي ويعقوب ويعضده قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وقرأ الباقون: {مَلِكِ} وهو المختار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى: {لّمَنِ الملك اليوم} ولما فيه من التعظيم والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من الملك وقرئ: {ملك} بالتخفيف وملك بلفظ العمل ومالكا بالنصب على المدح أو الحال، و{مالك} بالرفع منوناً ومضافاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، و{ملك} مضافاً بالرفع والنصب. و{يوم الدين} يوم الجزاء ومنه: «كما تدين تدان» وبيت الحماسة:
ولم يَبْقَ سِوَى العدوا *** نِ دِناهُمْ كما دَانُوا
أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار، ومعناه، ملك الأمور يوم الدين على طريقة {وَنَادَى أصحاب الجنة} أوله الملك في هذا اليوم، على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة، وقيل: {الدين} الشريعة، وقيل: الطاعة، والمعنى يوم جزاء الدين، وتخصيص اليوم بالإضافة: إما لتعظيمه، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه، وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه موجداً للعالمين رباً لهم منعماً عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها، مالكاً لأمورهم يوم الثواب والعقاب، للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلاً عن أن يعبد، فيكون دليلاً على ما بعده، فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد، وهو الإيجاد والتربية. والثاني والثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد. والرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما، وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين.


{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة، ليكون أدل على الاختصاص، وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود، فكأن المعلوم صار عياناً والمعقول مشاهداً والغيبة حضوراً، بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عياناً ويناجيه شفاهاً.
اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطاً للسامع، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس، كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} وقوله: {والله الذى أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سحابا فَسُقْنَاهُ} وقول امرئ القيس:
تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثمدِ *** ونامَ الخليُّ ولم تَرْقُدِ
وباتَ وباتَتْ له ليلة *** كَلَيْلَةِ ذي العائرِ الأرْمَدِ
وَذَلِكَ منْ نَبَأ جاءني *** وَخبرْتهُ عَن أَبي الأَسْودِ
و(إيا) ضمير منصوب من فصل، وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب، كالتاء في أنتَ والكاف في أرأيتك. وقال الخليل: إيا مضاف إليها، واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب، وهو شاذ لا يعتمد عليه. وقيل: هي الضمائر، وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به، وقيل: الضمير هو المجموع. وقرئ: {إِيَّاكَ} بفتح الهمزة و{هياك} بقلبها هاء.
والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبَّد أي مذلل، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة، ولذلك لا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى.
والاستعانة: طلب المعونة وهي: إما ضرورية، أو غير ضرورية والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل. وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي، أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه، وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف والمراد طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات، والضمير المستكن في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة، وحاضري صلاة الجماعة. أو له ولسائر الموحدين. أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه نعبدك ولا نعبد غيرك، وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصلة سنية بينه وبين الحق، فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها ملاحظة له ومنتسبة إليه، ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه حين قال: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} على ما حكاه عن كليمه حين قال: {إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ} وكرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير، وقدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي، ويعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة.
وأقول: لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدر عنه، فعقبه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ليدل على أن العبادة أيضاً مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونة منه وتوفيق، وقيل: الواو للحال والمعنى نعبدك مستعينين بك. وقرئ بكسر النون فيهما وهي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها.


{اهدنا الصراط المستقيم} بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال: كيف أعينكم فقالوا: {اهدنا}. أو إفراد لما هو المقصود الأعظم. والهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير وقوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} وارد على التهكم. ومنه الهداية وهوادي الوحش لمقدماتها، والفعل منه هدى، وأصله أن يعدى باللام، أو إلى، فعومل معاملة اختار في قوله تعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ} وهداية الله تعالى تتنوع أنواعاً لا يحصيها عد كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} ولكنها تنحصر في أجناس مترتبة:
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة.
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار حيث قال: {وهديناه النجدين} وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم فاستحبوا العمى عَلَى الهدى}
الثالث: الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإياها عنى بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} وقوله: {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمِ}
الرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي، أو الإلهام والمنامات الصادقة، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} وقوله: {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المرتبة عليه. فإذا قاله العارف بالله الواصل عنى به أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، وتميط غواشي أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك. والأمر والدعاء يتشاركان لفظاً ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل، وقيل: بالرتبة.
والسراط: من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة، ولذلك سمي لقماً لأنه يلتقمهم. و{الصراط} من قلب السين صاداً ليطابق الطاء في الإطباق، وقد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه. وقرأ ابن كثير برواية قنبل عنه، ورويس عن يعقوب بالأصل، وحمزة بالإشمام، والباقون بالصاد وهو لغة قريش، والثابت في الإمام وجمعه سُرُطْ ككتب وهو كالطريق في التذكير والتأنيث.
و{المستقيم} المستوي والمراد به طريق الحق، وقيل: هو ملة الإسلام.
{صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل من الأول بدل الكل، وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين. وقيل: {الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} الأنبياء، وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقيل: أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل التحريف والنسخ. وقرئ: {صراط مِنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} والإنعام: إيصال النعمة، وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين، ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} تنحصر في جنسين: دنيوي وأخروي.
والأول قسمان: وهبي وكسبي والوهبي قسمان: روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق، وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة وحصول الجاه والمال.
والثاني: أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين. والمراد هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر.

1 | 2 | 3